آية الله المجاهد الشيخ نمر باقر النمر
إن الحياة قائمة على سنن محكمة لا تتبدل ولا تتحول، وتُحَدِّدُ هذه السننُ طبيعةَ الحاضر، وتنبئ بآفاق المستقبل، ومن رحم ثوابت السنن، تتولد كل التحولات والتغيرات الكونية والإنسانية، لتعاد إلى أحضان ثوابت التشريع المستوحاة من بحار السنن لتملي على الإنسان بصائر وهدى ورحمة من المعارف و العلوم والمفاهيم، والأحكام والإرشادات والوصايا، ليختار منها الإنسان ذاته ما ينسجها لتكوين لباس شخصيته ولِيُكَوِّن من خلالها مجريات السنن المُحْكَمَة التي تثمر الحياة الطيبة أو الحياة الخبيثة.
ولكي تتجلى هذه النظرية بوضوح يخترق كل حجب الغشاوة التي تحول بين الإنسان والبصيرة المعرفية ، أضرب أمثلة لبعض السنن التي تجري في هذه الحياة:
المثال الأول: سنة الظلم
1. السنة هي: «أن الظلم عاقبته وخيمة» أو «الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم».
2. طبيعة الحاضر لحكم الظلم : تتلخص في الفساد الشامل، بدءا من التقنين ودسترة النظم، ومروراً بفساد جميع المجالات الاجتماعية بمختلف أبعادها، وختاماً بالفساد السياسي والعقائدي والكينوني للإنسان.
3. آفاق المستقبل هي: إهلاك الحرث والنسل، والتمزيق والإستعباد، وزوال الملك.
4. رحمُ ثوابت السنن لوحٌ محفوظ مرصع بالذهب منقوش فيه: {وَأَن لَّيْسَ للإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} فالإنسان مسؤول عن اختياره، وهو الذي يُشَيِّد قواعد وأعمدة عظام قصر حياته، وهو الذي يكسوه بأفعاله وسلوكياته {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} فواقع الإنسان نتاج ذاته التي شكلها عقيدة ونطقاً وسلوكاً.
وظلم العباد بعضهم لبعض - من العلماء والعباد، والوجهاء والتجار، والأزواج والأيامى، والآباء والأبناء، والمعلمين والمتعلمين، والرؤساء والمرؤوسين، والكبار والصغار، والرجال والنساء، وبقية الفئات الاجتماعية - هو الذي يمكن الحكام من ظلمهم، وهو الأرض الخصبة لحرث شريعة الظلم، ولمنبت حكم الظالم {كما تكونوا يولى عليكم}، {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً}.
وحكم الظلم والظالم هو الذي ينجب القتل وسفك الدماء، فضلاً عن السجون والغصب والنهب، وكل الجرائم والجنح والتعديات، والمآسي والآفات، والمشاكل والصراعات.
5. ثوابت التشريع هي: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}، التشريع واضح وجلي في عدم شرعية حكم الظالم ونسفها إلى الأبد، {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ}، والتشريع واضح وجلي في حرمة الركون إلى الظالم فضلاً عن إعانة الظالم، {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ}، والتشريع واضح وجلي في وجوب الكفر بالطاغوت {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ}، والتشريع واضح وجلي في وجوب اجتناب الطاغوت والابتعاد عنه، ومن هذه الأصول نهتدي لاستنباط كل التفريعات، واستخراج كل مفردات الحكم التكليفي والوضعي لولاية الظالم، وما يترتب عليها من نتائج وأحكام.
6. إن إعطاء الشرعية لحكم الظالم أو الركون إليه يؤدي إلى إهلاك الحرث والنسل: وهذه العاقبة الوخيمة للقبول أو السكوت، أمَّا عدمُ الاعتراف بشرعية الظالم وعدمُ الركون إليه سيؤدي إلى زوال ملك وحكم الظالم ومن ثم بزوغ شمس الكرامة وقمر الحرية وبسط العدل وحكم القسط.
المثال الثاني: سنة العدل
1. السنة هي: «العدل جُنَّة واقية وجَنَّة باقية»، فالعدل هو الحصن الواقي وهو الرفاه الباقي.
2. طبيعة الحاضر لحكم العدل: تتلخص في اقتلاع الظلم وارتفاع الجور وانعدام الطغيان، وبسط الأمن العام والشامل لجميع أبعاد الحياة وسُبُلِها، «العدل يريح العامل به من تقلد المظالم» و «إذا قام القائم حكم بالعدل وارتفع في أيامه الجور وأمنت به السبل»، وبالعدل يعظم السلطان «من عدل عظم قدره»، ويتمكن من الملك وحكم الأنام «من عدل تمكن» «اعدل تملك» «من ركب العدل ملك» «اعدل تحكم»، ويتحقق النظام «العدل نظام الإمرة»، وتُجْرى وتُنَفَّذ الأحكام «من عدل نفذ حكمه»، وتصلح البرية «العدل يصلح البرية» «عدل السلطان صلاح البرية» «بالعدل تصلح الرعية»، وتستقيم الرعية «العدل قوام الرعية» «بالعدل قوام العالم» «جعل الله العدل قوام للأنام»، وتعمر البلاد «ما عمرت البلاد بمثل العدل»، ويضمحل الشر ويسود الخير «زمان العادل خير الأزمنة»، وتنتعش الحياة ويدبُّ الحراك الإنساني الشامل بدء من تفعيل النظم والقوانين والأحكام «العدل حياة الأحكام» ومروراً بالحراك والفاعلية والإنتاج والإبداع في جميع النواحي الحياتية، والمجالات الحضارية، والآفاق المعرفية، والأبعاد الاجتماعية، والاكتشافات التقنية «العدل حياة»، وختاماً بنهوض الرعية وفاعليتها لتشييد الصرح المعرفي، والبناء الحضاري، والسنام الريادي «عدل السلطان حياة الرعية». فالعدل هو الجُّنة الواقية من السقوط والانهيار، وهو الجَّنة الباقية مهما تطاول أو تغير الزمان.
3. آفاق المستقبل هي: حكم ونظام لا تزعزعه الرياح، ولا تهزه العواصف، ولا تجرفه السيول، ولا تخلخله الأعاصير، ولا تموج به الطوفان، لأن «العدل أقوى أساس» حيث يستمد قوته من عزِّ قوةٍ لا تُقهر، وهي العزة الإلهية، ومن نبع نهر لا ينضب، وهو نبع التقوى والرضوان الإلهي {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، فالعدل هو التجسيد العملي الأقرب، والتجلي الحقيقي الأجلى، لمفهوم التقوى، ونبع التقوى والرضوان الإلهي الذي يتجلى في العدل هو الأساس الوحيد للبقاء والديمومة «اعدل تدم لك القدرة» {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} - على العدل - {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ} - بسلوك العدل - {خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} - الظلم والغدر - {فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ولأن التقوى هي منبع الرحمة الإلهية الواسعة لكل شيء، والشاملة للرحمة الرحمانية العامة لكل الموجودات، والشاملة للرحمة الرحيمية الخاصة بالمؤمنين المتقين {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}، ولأن العدل هو السلوك الأجلى للتقوى، ستنعم البلاد والعباد برحمة الله الشاملة «مَنْ عدل في البلاد نشر الله عليه الرحمة»، وبهذه الرحمة التي هي جزاء العدل ستتضاعف الخيرات والبركات في كل المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية والمعرفية والحقوقية وغيرها فـ «بالعدل تتضاعف البركات» «عدل السلطان خير من خصب الزمان» «إذا قام القائم حكم بالعدل وارتفع في أيامه الجور وأمِنَتْ به السُبُل وأخرَجت الأرض بركاتها ورد كل حق إلى أهله»، وبحكم العدل ستحصن الدول من تجاوزات الأعادي، والاحتلال الدولي، والغزو الجاهلي، والاختراق الثقافي «من عمل بالعدل حصن الله ملكه» «ما حصن الدول بمثل العدل» «لن تحصن الدول بمثل استعمال العدل فيها»، وبحصن العدل سيُقْهَرُ الأعداء مهما كانت قوتهم، لأن العدل هو أقوى سلاح، بل هو السلاح الذي يُقْهِر ولا يُقْهَر «بالسيرة العادلة يُقْهَرُ المناوئ»، وبحكم العدل يتحقق الاستقرار والأمن والقوة والثبات والبقاء «ثبات الدول بإقامة العدل» «في العدل الإقتداء بسنة الله وثبات الدول»، ومن يحكم بالعدل سيحظى برضا الشعب وقوة الجانب «من عدل عظم قدره»، ولذلك سيستغني عن ظلم العباد «العدل يريح العامل به من تقلد المظالم» ومن يحكم بالعدل تمكن من الحكم «من عدل تمكن» «اعدل تحكم»، وملك القدرة «اعدل تدم لك القدرة» ومن ملك القدرة لا يحتاج إلى الظلم لأنه «لا يحتاج إلى الظلم إلا الضعيف»، ومن لا يظلم يستغني عن أعوان الظلم من المرتزقة والمتملقين والمنافقين والمستأكلين «من عدل في سلطانه استغنى عن أعوانه» وبحكم العدل يحقق حقيقة الفوز والغلبة والفلاح، والعزة والكرامة والنجاح، في الدنيا والآخرة وفي جميع متطلبات الحياة «العدل فوز وكرامة» في الدارين والحظوة بالجزاءين.
4. رحمُ ثوابت السنن لوحٌ محفوظ مرصع بالذهب منقوش فيه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ}، فعبدوا الله بقيام الليل وصيام النهار {وَاتَّقَواْ} باتخاذ العدل شريعة {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ} تحولات كبرى وتغيرات شاملة بدءً من آفاق المعرفة وتجليات الحقائق {وَالأَرْضِ} ومروراً بالثروات من الكنوز والمعادن ورغد العيش من الطعام والشراب، وختاماً بسعادةِ وطيبِ الحياة من السكن والمساكن، {وَلَـكِن كَذَّبُواْ} فجحدوا وكفروا وجاروا وظلموا {فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}.
إن ساعة واحدة يحكم فيها العدل خيرٌ وأبرك وأفضل وأسعد وأطيب من حياة عُمُرِ الإنسان كله، لأنها ساعةُ حياةٍ وعزٍّ وكرامة، وذاك عُمُرُ موتٍ وذلٍّ ومهانة «عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة» - والسبعين للعدد غير المتناهي، وقد تكون للعمر المتوسط لعمر الإنسان وهذا هو الأقرب - قيام ليلها وصيام نهارها، وجور ساعة في حكم أشد عند الله من معاصي ستين سنة - والستين هي العمر المتوسط للعصاة والمذنبين - فظلم ساعة أكبر جرماً من مجموع ذنوب العباد ومجموع الانغماس في المعاصي منذ ولادة الإنسان إلى مواراته الثرى في لحده.
5. ثوابت التشريع هي: {لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ} {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً}، ومن هذه الأصول نستوحي بصائر وهدى وفلسفة الحكم والخلافة الإلهية في الأرض، وبصائر وهدى وفلسفة إنزال الرسالة السماوية إلى أهل الأرض، وبصائر وهدى وفلسفة إرسال الرسل وبعث الأنبياء وبصائر وهدى وفلسفة جعل الأئمة وتنصيب الأولياء، التي تتلخص في إقامة حكم العدل في كل المناحي والمجالات، وفي كل الشؤون والموضوعات، وفي كل الأمكنة والأزمنة والمتغيرات، ولذلك حُصِرَتْ شرعيةُ ووجوبُ الولاية والطاعة والقضاء بين الناس لولاة العدل الربانيين الآمرين بالمعروف - وأجلى وأسنى وأسمى مصاديق المعروف وأرفع وأعلى وأرقى أفراده بعد مفهوم التوحيد هو مفهوم العدل - وهم الأئمة من أهل بيت النبوة، ومن بعدهم الفقهاء الربانيين القادرين على استنباط الأحكام ومعرفة الزمان.
إن كل الأحكام التشريعية التقنينية، والقضائية الحُكْمِية، والتنفيذية الإجرائية، وكل السلطات الكبرى والصغرى تستمد شرعيتها ومشروعيتها من قيمة العدالة، فالعدالة هي الميزان لمعرفة حكم الحق من الباطل، وهي المنظار لتمييز الحكم الصالح من الفاسد، وهي المقياس لاكتشاف الحكم الصائب من الخاطئ. ولذلك كان التكليف الشرعي العام هو إقامة حكم ودولة العادل «دولة العادل من الواجبات»، فيجب على كل من اجتمعت فيه أهلية التكليف من البلوغ والعقل والقدرة السعي لإقامة دولة العادل.
6. إن حكم العدل: هو المبعث لرغد الحياة، والمنبع للحياة الطيبة، والمصدر لطيب العيش، والأصل للعيش الكريم، وهو القوة التي تقتلع الظلم والجور والطغيان، وبالتالي الخلاص من كل المشاكل والمآسي والأزمات بجميع أنواعها وأصنافها وأشكالها.
إن الحل والخلاص لكل مآسي ومشاكل وعقد البشرية يتلخص في كلمة وهي: حكم العدل، ولا خلاص إلا بالعدل، وكل سلوك يطابق الظلم أو يوافقه أو يكرسه، أو يناقض العدل أو يخالفه أو يهمشه فالإسلام منه بريء كبراءة الذئب من دم يوسف.
ولن يتحقق العدل بالأماني، ولا يتحقق بالأحلام، وإنما يتحقق على أيدي الآمرين بالعدل وهم ولاة أمر الدين وأهله وقادة الأمة حماتها. وبهم تحيى البلاد والعباد حياة شاملة، في قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}، قال الإمام الكاظم عليه السلام: «ليس يحييها بالقِطْر ولكن يبعث الله رجالاً فيحيون العدل فتحيى الأرض لإحياء العدل، ولإقامة العدل فيه أنفع في الأرض من القِطْر أربعين صباحاً».