الوحدة الوطنية قناع لتكوين عبدة الطاغوت (6)

الخميس 2 نوفمبر 2017 - 16:46 بتوقيت مكة
الوحدة الوطنية قناع لتكوين عبدة الطاغوت (6)

إن الوحدة الإسلامية تستمد شرعيتها من مصادر المعرفة والإلهام الخمسة؛ لِمعرفة وبناء دعامتي وركيزتي الحياة، وهما عمارة الأرض، وإصلاح العباد؛

 

بقلم آية الله المجاهد الشيخ نمر باقر

«سابعاً» أقوى العوامل الداعية للوحدة

إن الوحدة الإسلامية تستمد شرعيتها من مصادر المعرفة والإلهام الخمسة؛ لِمعرفة وبناء دعامتي وركيزتي الحياة، وهما عمارة الأرض، وإصلاح العباد؛ وهذه المصادر هي ذاتها مصادر المعرفة للفكر الأصيل، والبصيرة المنيرة، والرؤية الثاقبة، والعمل الرشيد، والموقف المسؤول؛ وهذه المصادر هي:

1. الوحي لما يمثل من منظومة فكرية سليمة، لا عيب فيها ولا خلل، وشاملة لكل أبعاد الحياة ومجالاتها، ومتكاملة لا نقص فيها ولا قصور، وجامعة لكل متناقضات الحياة وحاجات الكون والإنسان، ومنسجمة لا تناقض فيها وبلا اختلاف.

2. العاطفة لما تمثله من أحاسيس بشرية جياشة، ومشاعر إنسانية نبيلة، وطبائع اجتماعية أصيلة، وحاجات نفسية ضرورية.

3. الفطرة لما تمثله من أصول فكرية يعرف الإنسانُ من خلالها الوحي الإلهي الذي ما نَزَل إلا ليُذَكِّر بمكنونها؛ وما تمثله من نفس لوامة تحافظ على حياة الضمير ويقظته، وتوقد حرارة العاطفة الجياشة.

4. التجربة لما تمثله من تراكم خبرة إنسانية ممتدة من الملاحظة الدقيقة، والتفكير المتأمل، والتكرار الواعي للملاحظة أو الفعل، واستحضار الدليل الواضح، واعتماد البرهان القاطع، لتثبيت نظرية أو تفنيدها؛ ومن ثم الانطلاق والسعي في التفكير والعمل؛ بناءً على الحقائق الجلية، وتجاوز الأوهام الخيالية التي يتيه الناس في زوبعاتها، ورفض الخرافات الجاهلية التي تُكَبِّل عقولَ الناس وطاقاتِها.

5. العقل لما يمثله من منظار صافٍ لا يتشوش ولا يُخطئ؛ لتشخيص الفكر وتمييزه، وفهم الوحي وتطبيقاته. وهو قسطاس مستقيم، ومقياس هدى؛ لتحديد النسبة الصحيحة، والدرجة الطبيعية للعاطفة، وحمايتها من خداع النفس الأمارة بالسوء؛ وهو ميزان صدقٍ لعلمية وموضوعية وسلامة التجربة أو قصورها أو انحيازها أو سقمها.

ومن نبع هذه المصادر الخمسة، تتشكل البصيرة الثاقبة، والرؤية النافذة، وتردفان بالعمل المبدئي، والموقف المسؤول؛ لتشييد صرح الأمة الواحدة على أساس أقوى العوامل الداعية للوحدة وهي:

1- الأحاسيس الوجدانية المشتركة المحشوة بالإيمان؛ وهي أهم الوشائج والروابط في بناء صرح الوحدة الإسلامية بعد رابطة العقيدة؛ لأن الارتباط العاطفي، والمشاركة الوجدانية؛ بين المسلمين يذيب كل الحواجز المصطنعة التي كرسها الواقع الجاهلي؛ ومن ثم يقتلع المؤمنين من جاذبية الأرض والجسد الحيوانية؛ ليسمو بهم إلى شفافية السماء والروح الإنسانية؛ وكأنهم مشتركون في وجدان واحد؛ إذا تألم واحد منهم تألم له الآخرون؛ وهكذا حزنه وسروره يُحْزِن ويُسِرُّ المؤمنين؛ لأنهم يعيشون في حالة من التعاطف والانسجام الوجداني الصادق؛ الناشئ من الشعور الإنساني الملتهب، والعقيدة الإيمانية الراسخة.

قال الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم): «مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه شيء تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».

وقال الإمام الصادق (صلى الله عليه وآله وسلم): «المؤمنون في تبارهم، وتراحمهم، وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى تداعى له سائره بالسهر والحمى».

وقال (عليه السلام): «المؤمن أخو المؤمن؛ كالجسد الواحد؛ إذا اشتكى شيئا منه وجد ألم ذلك في سائر جسده؛ وأرواحهما من روح واحدة. وان روح المؤمن لأشد اتصالاً بروح الله من اتصال شعاع الشمس بها».

وقال (عليه السلام): «إنما المؤمنون بنو أب وأم؛ وإذا ضَرَبَ على رَجُلٍ منهم عِرْقٌ سَهَرَ له الآخرون».

وقال (عليه السلام): «لا والله لا يكون المؤمن مؤمنا أبداً حتى يكون لأخيه مثل الجسد؛ إذا ضرب عليه عرق واحد تداعت له سائر عروقه».

وقال (عليه السلام): «لكل شيءٍ شيءٌ يستريح إليه؛ وإن المؤمن يستريح إلى أخيه المؤمن كما يستريح الطير إلى شكله».

وقال (عليه السلام): «المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد؛ إذا سقط منه شيء تداعى سائر الجسد».

وعن جابر قال: «تنفست بين يديه» أي بين يدي أبي جعفر الباقر (عليه السلام) «ثم قلت يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هَمٌّ يصيبني من غير مصيبة تصيبني، أو أمر ينزل بي، حتى تعرف ذلك أهلي في وجهي، ويعرفه صديقي.

فقال (عليه السلام): «نعم، يا جابر».

قلت: ما ذلك يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟

قال: «وما تصنع؟».

قلت: أحب أن أعلمه.

فقال: «يا جابر؛ إن الله عز وجل خلق المؤمنين من طين الجنان، وأجرى بهم من ريح الجنة روحه؛ فكذلك المؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه؛ فإذا أصاب روحاً من تلك الأرواح في بلدة من البلدان شيءٌ حزنت هذه الأرواح لأنها منها».

وقال الإمام الباقر (عليه السلام): «المؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه؛ لأن الله عز وجل خلق المؤمنين من طين الجنان، وأجرى في صورهم من ريح الجنان؛ فلذلك هم إخوة لأب وأم».

ولم ولن يفقد الفرد المؤمن شخصيته الفردية، ولا خصوصياته الشخصية، ولا كيانه المستقل؛ بارتباطه العاطفي في المجتمع الإيماني، ومشاركته الوجدانية؛ في بوتقة الأمة الإسلامية ضمن المجموع المتكون من المؤمنين؛ وإنما يكتسب قدرات أكبر، وإمكانات أكثر، وفضائل أجمل، ومناقب أحسن، وحصناً يحميه من الأشرار، وأسواراً تمنع عنه زوابع الأعداء؛ ويُغَذِّي معارفه العقلية بمشاركة المؤمنين في عقولهم، ويوسع دائرة ارتباطاته الاجتماعية بالعلاقات المبدئية، ويُشْبِع نَهَمَه الروحي بالسكينة ببركة التوافق والانسجام بينه وبين المؤمنين، ويُرْوي ظمأه النفسي بزلال أخُوَّته الإيمانية وأحاسيس إخْوَته المؤمنين.

يقول الإمام علي (عليه السلام): «إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بِقلِّة؛ وهو دين الله الذي أظهره، وجنده الذي أعده وأمده؛ حتى بلغ ما بلغ، وطلع حيث طلع؛ ونحن على موعود من الله؛ والله منجز وعده وناصر جنده؛ ومكان القَيِّم بالأمر مكان النظام من الخَرَز (1) يجمعه ويضمه؛ فإن انقطع النظام تفرق الخرز، وذهب ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً؛ والعرب اليوم وإن كانوا قليلاً؛ فهم كثيرون بالإسلام عزيزون بالاجتماع».

2- المصير المشترك الوحيد للنجاة؛ لأنه حينما لا ينفع مال ولا بنون، وتتقطع كل الوشائج والعلاقات والارتباطات بما فيها الوشائج المشروعة كرابطة الرحم؛ حيث يفر الكلُّ من الكلِّ، ويتخلى الجميعُ من الجميعِ؛ وحينما تنهار في نار جهنم كل الأبنية التي أسست على شفا جرف هارٍ من الدويلات والقوميات والإقليميات والوطنيات والقبليات والعشائريات والتحزبات والحَمِيَّات الجاهلية و...؛ هنالك يحتاج الإنسان إلى قلب سليم بالتقوى ينفعه عند الله، ورابطة إيمانية منسوجة بوجه الله الذي لا يفنى لكي يتعلق بها، وعروة وثقى من الكفر بالطاغوت والإيمان بالله يتمسك بها، وحبل من الله يعتصم به، وبناء أسِّسَ على التقوى والرضوان الإلهي. لأن كل العلاقات والوشائج بين الناس في هذه الدنيا تتحول يوم القيامة إلى وَقود العداوة بين الناس ما عدى علاقات المتقين حيث يأذن الله سبحانه وتعالى لهم بالشفاعة فيشفعون، يقول الله سبحانه وتعالى: {الأَخِلاَّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ}.

ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.

3- العقيدة الإيمانية الواحدة؛ لأن أهم العناصر والوشائج والروابط التي تُشيِّد صرح الوحدة، وتحقق مفهوم الأمة الواحدة هي وحدة الفكر والعقيدة التي تقتلع الحجب بين المؤمنين؛ وذلك عندما تعالج الضيق والحرج بسعة وشرح الصدور، وتشافي العمى والدرن ببصيرة وجلاء القلوب، وتداوي الجشع والجموح بالقناعة وترويض النفوس؛ لتُكَوِّن التعارف، وتُشَكِّل التوافق، وتُحَقِّق انسجاماً روحياً مؤتلفاً ينجذب بعضه إلى بعض؛ لأن ما تعارف من هذه الأرواح والأنفس باتفاق العقل والعقيدة والفكر والرأي والهوى انسجم وائتلف، وما تناكر منها بمباينة في العقل أو العقيدة أو الفكر أو الرأي أو الهوى افترق واختلف؛ وهذا ما ينطق ويتكلم به الواقع الخارجي، وندركه بالحواس، ونشاهده جلياً واضحاً، فكم وكم من الناس الذين اختلفوا في العشيرة والوطن والقوم واللغة والعناصر المادية الأخرى ولكنهم اتفقوا في العقل والعقيدة والأفكار والآراء والعلاقات الروحية، نراهم منسجمين متحابين متجاذبين كأنهم أسرة واحدة بل روح واحدة في أجساد متعددة؛ وهذا ما تؤكده النصوص الشرعية، قال الإمام الصادق (عليه السلام): «الأرواح جنود مجندة تلتقي فتتشام كما تتشام الخيل؛ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف؛ ولو أن مؤمناً جاء إلى مسجد فيه أناس كثير ليس فيهم إلا مؤمن واحد؛ لمالت روحه إلى ذلك المؤمن حتى يجلس إليه».

لأن حقيقة إنسانية الإنسان بعقله وعقيدته وفكره وآرائه؛ وبها يمتاز الإنسان عن سائر أنواع الحيوان والمخلوقات الأخرى، ويُفضَّل عليها؛ والعقيدة هي التي تُشكِّل بنية قلب الإنسان، وتُكوِّن تطلعاته الروحية، وتُوجِّه ميولاته النفسية، ومن ثم تنعكس على سلوكياته وأعماله ومواقفه، وبالتالي تنشئ وتحدد علاقاته وارتباطاته.

الهوامش :

 (1) النظام: الخيط الذي ينظم فيه اللؤلؤ ونحوه. والخَرَز: ما ينظم في السك من الجذع والودع.

يتبع......

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الخميس 2 نوفمبر 2017 - 13:57 بتوقيت مكة