بقلم الشيخ شفيق جرادي
صحيحٌ أنّ كتب اللغة اعتبرت الكافر هو الزارع، ذلك أن الزرّاع يخفون البذور تحت الأرض، إذ يهيلون عليها التراب. إلّا أنّ الأديان اصطلحت على الذي يخفي الحقائق ويزوِّرها ويُنكرها اسم الكافر، ممّا أعطى أصحاب هذه التسمية وجهًا قبيحًا أسودًا. أو بأفضل الأحوال، جعلهم مُنكَرون من قبل أتباع هذا الدين أو ذاك.
ونحن هنا، وإن لم نكن بصدد معالجة هذه التسمية بما تمثّل وتعنون الموقف الإسلاميّ من أتباع الأديان غير الإسلاميّة، أو الذين خرجوا من دين الإسلام، إلّا أننا نودّ الإشارة إلى أنّ إعطاء هذه التسمية على قوم أو أمّة أو دين شيء، وبلورة موقف محدّد تجاههم هو شيء آخر. فقد يطلق النصّ الإسلاميّ على أتباع دين ما أنّهم كفّار، ويعتبرهم أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا، كما قد يطلق هذه التسمية على أتباع دين آخر، ويُقرّ أنّهم أقرب الناس للذين آمنوا. فالحكم على شخص أو جهة بالكفر هو حكم على اعتقاده وانتمائه بالقياس للإيمان الذي يتبنّاه المسلمون. أمّا الموقف من هؤلاء فله في النصّ والتجربة الإسلاميّة شأن آخر. لكن العجب العُجاب أمران:
الأمر الأوّل: أن يستبيح أحدٌ من المسلمين حرمة الإنسان فردًا، أو دينًا، أو أمّة لمجرّد اعتباره كافرًا، بحيث يصبح عُرضةً لكلّ أذيّة ومن كلّ أحد، وتحت كلّ الظروف. وهذا ما يضع القيم والأخلاقيات الإسلاميّة على المحك.
الأمر الثاني: أن يستسهل أحد من المسلمين، عظُم شأنه أم قل، التعريض بفرد مسلم أو جماعة مسلمة أو مذهب إسلاميّ واتهامه بالكفر، لأنّه يختلف في بعض عقائده وأحكامه ومواقفه عن هذه الجماعة ممّن يدّعون امتلاكهم حصريّة الحقيقة والدين والصواب. إذ بمثل هذه العقليّة فإنّنا نضع كلّ التاريخ والحاضر، وبالتالي، المستقبل الإسلاميّ على المحك، ولجعلنا العقيدة بتوحيدها وعدلها ونبوّتها وإيمانها في مهبّ ريح عاصف من الأهواء والنزوات العصبيّة والغرائزيّة.
وهذا مستوًى أخطر من أيّ تصور يمكن أن نستحضره تجاه الرسالة الإسلاميّة وأهلها.
التكفير وحديث الفرقة الناجية.
يتمسّك أصحاب النظرة الاختزاليّة من التكفيريين الإسلاميين، أو الإقصائيين الأيديولوجيين والدينيين.. بنصوص وقيم يوظّفونها لما يذهبون إليه من اتجاههم التدميريّ، ومن ذلك ما يذهب إليه أهل النزعة الاختزاليّة من المسلمين من التمسّك بحديث الفرقة الناجية والذي يفيد أنّ الأمّة تنقسم إلى ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النار إلّا فرقة واحدة هي الفرقة الناجية. ويجهد أصحاب هذه النزعة على تقديم أنفسهم أنّهم هم هذه الفرقة، وأنّ سواهم كلّهم في النار. ومن العجيب، أنّه برغم ضعف هذه الرواية وتعارضها مع رواية أخرى تفيد أنّ كلّ الفرق في الجنة وأنّ واحدة هي التي في النار. انتشار الرواية الأولى وتحوّلها إلى معيار محوريّ في بناء الذات المذهبيّة التي صارت بالغالب الأعم منغلقة على كيانيتها الخاصّة الطاردة لكلّ دخيل مذهبيّ آخر، بل وتحوّلها في الآونة الأخيرة إلى نهج يمارسه بعض الجماعات ويحكمون بموجبه بنفي وهتك وقتل من يخالفهم القناعات والتفسيرات الدينيّة منها أو حتّى السياسيّة.
وما هذا إلّا تخلٍّ عن روح وقيم الإيمان بحقّ الاختلاف، وأنّه فرصة للتعارف والتكامل، بل وهو تخلٍّ عن أعظم حقيقة في الإسلام وهي الرحمة الإلهيّة، والرحمة المحمّديّة التي أمر الله انتهاجها لكلّ مسلم، والتي بدون ذكرها لا تقوم لمصلٍّ صلاة.